قرارات هيئة الانصاف والـمصالحة لم تكشف حقيقة مأساة القصر الكبير
عادل تشيكيطو
حين طال النسيان ألواح القصر الكبير العلمية... وحاصرها الحاقدون على مجدها التاريخي... التأمت نفوس أبنائها الحالمين وشهقت ثورتها غضبا لتعلن للجلادين أن القصر الكبير مدينة الصمود ستظل إلى الأبد قلعة لمواجهة الكائدين وإرغامهم على احترام الإنسان المغربي قاطبة... القصر الكبير إصرار ونضال وتحد وطموح تلك هي سجايا أبناء هذه المدينة )الهرم ومن خلال هذه الخصال يعبر أحفاد المجد إلى وطن العشق ليشيدوا له بالحب والكرم مدينة القصر الكبير الصامدة. مدينة القصر الكبير من بين أعرق المدن المغربية، تقع شمال البلاد على ضفاف نهر لوكوس بين الطريق الوطنية الرابطة بين الرباط وطنجة. وصل عدد سكانها حسب إحصائيات سنة 2004 إلى ما يزيد عن 110 ألف نسمة. ويتشكل التجمع القبلي بها في قبيلتين أساسيتين هما قبيلتا خلط وطليق كما تبعد مدينة القصر الكبير عن مدينة العرائش بـ 35 كلم وعن طنجة بـ 119 كلم وعن الرباط العاصمة ب 154 كلم. وموقع المدينة عند ملتقى السهل والجبل وكذا مناخها القاري القريب من البحر وعلى ضفاف نهر لوكوس يجعلها من بين أخصب المناطق في المغرب. ومدينة القصر الكبير من بين المدن المغربية القديمة ذات التاريخ المجيد حيث كانت في عهد بعيد محتلة من طرف الفينيقيين الذين جعلوا منها موقعا استراتيجيا يتواصلون عن طريقه مع القرطاجيين من خلال نهر اللكوس وكانت تسمى آنذاك عند الرومانيين ب )أبيدوم نوفوم أي القلعة الجديدة. وفي عهد الموحدين والمرابطين اتخذت لنفسها موقعا استراتيجيا ذا طابع جهادي مما جعل المدينة تبنى فيها أسوار عالية لحمايتها من أي هجوم مرتقب. وفي العهد المريني تبلورت مكانة القصر الكبير ولعبت دورا علميا حيث أنشأت بها المدرسة العينانية وأضحت معلمة علمية يتوافد عليها طالبو العلم ومن بين زوارها المعروفين الرحالة ابن خلدون. وهو ماعزز موقعها وجعل منها محط أطماع الإحتلال الأجنبي. ولعل معركة وادي المخازن الشهيرة خير دليل على ذلك، كما أنه منذ بداية القرن 16 عرفت المدينة أنشطة اقتصادية وتبادلا تجاريا في السلع بين الداخل والخارج وكانت معبرا أساسيا نحو العرائش وطنجة. ويحتوي القصر الكبير على مآثر تاريخية تتمثل في زوايا ومساجد وأضرحة وقصور وأسوار وقبور الملوك الثلاثة الذين قضوا في معركة واد المخازن وسيدي الرايس وللافاطمة الاندلسية، ومولاي علي بوغالب، والجامع السعيد، والزاوية التيجانية والمسجد الأعظم. مدينة القصر الكبير أو قصر كتامة كما كانت تسمى سالفا ستظل شاهدة على تضحيات أبنائها الذين أعطوا دروسا لمعاصريهم في الوطنية ومواجهة الظالم كيف ماكانت جهته، فشرفوا المنطقة بوسام الكرامة والبطولة من أجل نصرة الحق والدين والتصدي للعابثين بالإنسانية من قوى الظلم والاستبداد فقد عرف أبناء المدينة ببطولاتهم المجيدة ضد المستعمر الفرنسي والاسباني وجعلوا الاحتلال يعترف في كل مناسبة بضراوة المواجهة مع ثوار القصر الكبير ضدهم. ورغم كل هذا الرصيد التاريخي الحافل بالانجازات فإن المدينة اليوم يعيش أبناؤها على أنقاض التهميش وعدم الاكتراث بمعالمها فالمدينة اليوم حسب شهادة أحد أبنائها كلما حاولت أن تذكر إسمها إلا وأصبت بحالة من الذعر وخيبة الأمل من انعدام الحس الجمالي فيها، حيث تدحرجت قيمتها إلى حافة النسيان. فلا تقاسيم هندسية ولا فضاءات للأطفال ولامجال للعمل الجمعوي إذ الناشطون فيه يحفرون الصخر ويعضون على النواجد من أجل الإستمرار. فقد ضاعت معالم المدنية بالقصر الكبير وراح سحرها مع لحظات الزمن المشرق وأصبح معمارها الآيل للسقوط الآن دليلا على التشريد المقصود لمدينة النضال والكفاح والصمود. تقول شاعرة من القصر الكبير عن الحالة المزرية التي باتت تعرفها هذه المدينة )... هنا دق الوطنيون أجراسهم... وماتوا... ومن هنا تدلت أشجار برتقالها مرة. والآن لا برتقال مال بوارفه على ظلال القصر، ولا الأبناء ناموا في حضنه.. إنهم يرحلون. يغتربون. يلوذون إلى مدن أخرى بحثا عن هواء أجدر بالعيش . أما عبد القادر القيوري موظف بالمحطة الطرقية في القصر الكبير فقد صرح لنا على أن )الحالة التي باتت تعيشها المدينة منذ ما يناهز ثلاثين سنة هي نتيجة لتهميش ممنهج من طرف مسؤولين كبار في البلاد آنذاك... فالمدينة أضحت مزبلة بشرية تعاقب على خروجها للشارع ضد القهر والتجويع فأينما حللت فإن عينك لايمكن أن لاتبصر متشردا أو أحمق في حالة يندى لها الجبين. وكل هؤلاء لايعرفهم القصريون إذ يتم ترحيل الأفواج العديدة من المختلين عقليا الى المدينة حتى يعتقد المار بهذه المدينة أنها موطن الحمقى.. مدينة القصر الكبير التي لم يستسع وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري وقوف أبنائها في وجهه يوم حل بها في إحدى المناسبات الرسمية سنة 1982 وطلبوا منه الرحيل من مدينتهم وعدم الدخول اليها وهو في عز قوته ـ حسب شهادة أحد رجال المدينة المسنين ـ جعلها تدخل في مصاف المدن المقهورة وطنيا. خصوصا بعدما خرج أبناؤها للمشاركة في انتفاضة الجوع في يناير 1984 هذه الأخيرة التي نشبت كنتيجة للوضع المزري الذي أدى بالمغرب إلى الإفلاس حيث بلغت ديونه الخارجية آنذاك 700 مليون دولار أدى اليه سوء التدبير والانكباب على تحصين الجهاز الأمني وجعله أداة للردع والجزر والانفاق الضخم على التسليح وكذا انخفاض الفوسفاط المعيل الأول للاقتصاد الوطني بالاضافة الى قضية الصحراء التي كانت تكلف المغرب ما يناهز مليون دولار يوميا. وهو ما أرغم المغرب على الخضوع لتوجيهات صندوق النقد الدولي المتمثلة في تبني سياسة التقويم الهيكلي المرتكزة على سياسة التقشف والتي أدت الى فرض مجموعة من الإجراءات التي أجهز من خلالها على مجموعة من المكتسبات في عدة قطاعات من بينها التعليم، الصحة، الشغل والسكن. كما عرفت أثمنة المواد الأساسية ارتفاعا مهولا إذ بلغت نسبة 18 بالنسبة للسكر و 67 للزبدة و20 للغاز والوقود... الى غير ذلك من الإجراءات التي لم يواكبها أي تحسن للحالة المعيشية للمواطن وهو ماجعله وجعل أبناء القصر الكبير يخرجون الى الشارع من أجل التنديد بسياسة التقشف التي كانت لها تبعات سيئة على المواطن المغربي البسيط. هذا الوضع أدى بالأجهزة القمعية إلى مواجهة سكان القصر القمعية بأبشع الطرق حيث استعمل السلاح الناري كأداة لتفرقة المظاهرات السلمية التي نظمت أنذاك مما أدى إلى إصابات متعددة في صفوف المواطنين. فقد كانت البداية بإحدى ثانويات القصر الكبير حيث استمر إضراب التلاميذ مدة يومين قررت خلالها السلطات أن تقتحم حرمة المؤسسات وتردع المتظاهرين غير أن نار الغضب لم تزد إلا تأججا وانتقلت إلى الشارع القصري مما أدى بأحزاب وجمعيات ومواطنين عاديين الى الاحتجاج في شكل مظاهرات سلمية غير أنه كانت لمخزن القصر الكبير كلمة أخرى حيث أعطيت التعليمات بردع وقمع كل المتظاهرين الذين شاركوا في تلك المسيرات السلمية، وقد أصيب نتيجة لهذه التدخلات عدد هائل من المواطنين تم جمع جثتهم بسرعة حتى لايتسنى للمتتبعين بعدِّهم. وأعلنت الجهات الرسمية على أن المواجهة بمدينة القصر الكبير لم تعرف أية ضحايا باستثناء بعض الجروح البادية على مواطنين ورجال أمن. غير أن هيأة الانصاف والمصالحة. كانت قد توصلت بثلاثة طلبات من ذوي حقوق الأشخاص المتوفين خلال الأحداث التي عرفتها المدينة وأفضت تحريات الهيئة الى التأكد من وفاة أربعة أشخاص تمكنت من تحديد هوية ثلاثة منهم وتبين لها أن الشخص الرابع حسب والدة أحد الضحايا هو طفل يقطن بدوار الدخان ودفنت جثته بقبر مصطفى بنسر غيني ولم يتأت للهيئة العثور على عائلته. غير أن الجمعية المغربية لحقوق الانسان فرع القصر الكبير اعتبرت قرارات الهيئة المتعلقة بالمدينة وبالضبط أحداث يناير 1984، لم تكشف مجمل حقيقة القمع الذي تعرضت له ساكنة القصر الكبير. وسجل بيان الجمعية أن ضحايا سنوات الرصاص لم يتم إنصافهم بشكل صحيح مما يجعل ملف الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان مازال مفتوحا ونددت الجمعية بما سمته بالهاجس الأمني في التعاطي مع طلبات المكلومين من أحداث يناير 1984. ويذكر أن السلطات بعد الأحداث مباشرة قامت باعتقال العديد من المواطنين والتنكيل بهم. كما حدث في المدن المغربية الأخرى، فاعتقل مواطنون لاعلاقة لهم بالأحداث الشيء الذي تؤكده شهادة أحد الضحايا الذي طلب منا بإلحاح أن لا ندرج اسمه وأن نتخذ له اسم )العميري . وقد توصلنا بشهادته عن طريق البريد الإلكتروني وفهمنا من خلال حديثنا معه هاتفيا أن الرعب مازال يدب في أحشائه جراء ما تعرض له من قمع. يقول )العميري بلغة بسيطة نبرتها الألم والخوف والحزن، )... أثناء الإضرابات التي شهدتها القصر الكبير كنت قد غادرت قريتي بجماعة سوق الطلبة لأعمل بالمدينة. وقد كانت أيامي الأولى بالقصر الكبير مصادفة للحادث، كنت أشتغل كحمال للبضائع من المرينة الى سوق سبتة أو سوق الحنة أو إلى المحطة الطرقية، كنت قد استأجرت عربة أجرها بنفسي ذات عجلتين. وفي أحد الأيام وبالضبط يوم 22 يناير وبينما أنا ذاهب لأستلم العربة من دوار )بوشويكة صادفت في طريقي أحد أبناء قبيلتي وهو في عراك مع رجل وامرأة يبدو من خلال ملابسهما ولهجتهما أنهما جبليان حاولت أن أفصل بينهم بعدما عجز جمع من الناس القيام بذلك. وإذا بسيارة الشرطة تقف، اعتبرت أنه من الواجب أن أذهب لمساندة ابن قبيلتي فلحقت عليه بمركز الشرطة. قلت لشرطي في الباب أني أريد أن أرى ماذا حل بصديقي فوجهني بعنف نحو مكتب وجدت فيه صديقي وخصماه، ومعهما ضابط شرطة قالت المرأة للضابط ) حتى هذا كان معاه إذ علمت بعدها أن الجبليان كانا قد اتهما صديقي بالسرقة. لم يترك لي الضابط فرصة التفسير أو التوضيح بل نهرني ثم لطمني على مستوى وجهي وأجلسني عنوة وطلب من الجبليان أن ينصرفا وقام بأخذي إلى غرفة مستقلة عن التي وجد بها صديقي ليحرر لي ضابط آخر محضرا في القضية. وبعد انتهائه سألني عن هويتي بأسئلة متعددة وعن البطاقة الوطنية التي لم أكن أتوفر عليها وطلب مني أن أبصم على ورقته وفعلت وإذا به يلفق لي قضية التظاهر غير القانوني والقيام بأعمال الشغب والسرقة والاعتداء على ممتلكات الغير. لم أتمكن من معرفة هذه التهم إلا بعد أن تلاها علي أحدهم بعد مرور ثلاثة أيام بحجز تلك الدائرة الأمنية ليتم تنقيلي ليلا نحو مكان آخر والأصفاد في يدي وعند إنزالي من السيارة المدنية تم وضع عصابة على عيني سمعت آنذاك كلمة واحدة عرفت من خلالها أني سألقى من خلالها الويلات من العذاب إذ قال أحدهم للذي سيتسلمني )زد هذا الكلب على الآخرين وتهلاَّ فيه... بعد ما يناهز 25 يوما من التعذيب الجسدي والنفسي والإهانة والسب والشتم عرفت المكان الذي أتواجد فيه، هو ثكنة القوات المساعدة الآن بعدما أمضيت ما يناهز ستين يوما، أفرج عني وأجبرت على زيارة دائرة الأمن كل صباح ليراني ضابط الأمن وأوقع له في ورقة مع السب والإهانة... لحد الآن لا أعرف ماهو الذنب الذي اقترفته وأي جرم ارتكبته ولا أريد أي إنصاف أو مصالحة سوى أن يحاكم الذين تعدوا علي وعلى مجموعة من أبناء مدينة القصر الكبير... . القصر الكبير مدينة العلم والطهارة والعفة يغتصب هدوؤها الراسي على شط واد المخازن ليتحول الى صرخات وأوجاع وكوابيس جعلت من معالمها أنقاضا يصعب ترميمها وجبر ضررها.
عادل تشيكيطو
حين طال النسيان ألواح القصر الكبير العلمية... وحاصرها الحاقدون على مجدها التاريخي... التأمت نفوس أبنائها الحالمين وشهقت ثورتها غضبا لتعلن للجلادين أن القصر الكبير مدينة الصمود ستظل إلى الأبد قلعة لمواجهة الكائدين وإرغامهم على احترام الإنسان المغربي قاطبة... القصر الكبير إصرار ونضال وتحد وطموح تلك هي سجايا أبناء هذه المدينة )الهرم ومن خلال هذه الخصال يعبر أحفاد المجد إلى وطن العشق ليشيدوا له بالحب والكرم مدينة القصر الكبير الصامدة. مدينة القصر الكبير من بين أعرق المدن المغربية، تقع شمال البلاد على ضفاف نهر لوكوس بين الطريق الوطنية الرابطة بين الرباط وطنجة. وصل عدد سكانها حسب إحصائيات سنة 2004 إلى ما يزيد عن 110 ألف نسمة. ويتشكل التجمع القبلي بها في قبيلتين أساسيتين هما قبيلتا خلط وطليق كما تبعد مدينة القصر الكبير عن مدينة العرائش بـ 35 كلم وعن طنجة بـ 119 كلم وعن الرباط العاصمة ب 154 كلم. وموقع المدينة عند ملتقى السهل والجبل وكذا مناخها القاري القريب من البحر وعلى ضفاف نهر لوكوس يجعلها من بين أخصب المناطق في المغرب. ومدينة القصر الكبير من بين المدن المغربية القديمة ذات التاريخ المجيد حيث كانت في عهد بعيد محتلة من طرف الفينيقيين الذين جعلوا منها موقعا استراتيجيا يتواصلون عن طريقه مع القرطاجيين من خلال نهر اللكوس وكانت تسمى آنذاك عند الرومانيين ب )أبيدوم نوفوم أي القلعة الجديدة. وفي عهد الموحدين والمرابطين اتخذت لنفسها موقعا استراتيجيا ذا طابع جهادي مما جعل المدينة تبنى فيها أسوار عالية لحمايتها من أي هجوم مرتقب. وفي العهد المريني تبلورت مكانة القصر الكبير ولعبت دورا علميا حيث أنشأت بها المدرسة العينانية وأضحت معلمة علمية يتوافد عليها طالبو العلم ومن بين زوارها المعروفين الرحالة ابن خلدون. وهو ماعزز موقعها وجعل منها محط أطماع الإحتلال الأجنبي. ولعل معركة وادي المخازن الشهيرة خير دليل على ذلك، كما أنه منذ بداية القرن 16 عرفت المدينة أنشطة اقتصادية وتبادلا تجاريا في السلع بين الداخل والخارج وكانت معبرا أساسيا نحو العرائش وطنجة. ويحتوي القصر الكبير على مآثر تاريخية تتمثل في زوايا ومساجد وأضرحة وقصور وأسوار وقبور الملوك الثلاثة الذين قضوا في معركة واد المخازن وسيدي الرايس وللافاطمة الاندلسية، ومولاي علي بوغالب، والجامع السعيد، والزاوية التيجانية والمسجد الأعظم. مدينة القصر الكبير أو قصر كتامة كما كانت تسمى سالفا ستظل شاهدة على تضحيات أبنائها الذين أعطوا دروسا لمعاصريهم في الوطنية ومواجهة الظالم كيف ماكانت جهته، فشرفوا المنطقة بوسام الكرامة والبطولة من أجل نصرة الحق والدين والتصدي للعابثين بالإنسانية من قوى الظلم والاستبداد فقد عرف أبناء المدينة ببطولاتهم المجيدة ضد المستعمر الفرنسي والاسباني وجعلوا الاحتلال يعترف في كل مناسبة بضراوة المواجهة مع ثوار القصر الكبير ضدهم. ورغم كل هذا الرصيد التاريخي الحافل بالانجازات فإن المدينة اليوم يعيش أبناؤها على أنقاض التهميش وعدم الاكتراث بمعالمها فالمدينة اليوم حسب شهادة أحد أبنائها كلما حاولت أن تذكر إسمها إلا وأصبت بحالة من الذعر وخيبة الأمل من انعدام الحس الجمالي فيها، حيث تدحرجت قيمتها إلى حافة النسيان. فلا تقاسيم هندسية ولا فضاءات للأطفال ولامجال للعمل الجمعوي إذ الناشطون فيه يحفرون الصخر ويعضون على النواجد من أجل الإستمرار. فقد ضاعت معالم المدنية بالقصر الكبير وراح سحرها مع لحظات الزمن المشرق وأصبح معمارها الآيل للسقوط الآن دليلا على التشريد المقصود لمدينة النضال والكفاح والصمود. تقول شاعرة من القصر الكبير عن الحالة المزرية التي باتت تعرفها هذه المدينة )... هنا دق الوطنيون أجراسهم... وماتوا... ومن هنا تدلت أشجار برتقالها مرة. والآن لا برتقال مال بوارفه على ظلال القصر، ولا الأبناء ناموا في حضنه.. إنهم يرحلون. يغتربون. يلوذون إلى مدن أخرى بحثا عن هواء أجدر بالعيش . أما عبد القادر القيوري موظف بالمحطة الطرقية في القصر الكبير فقد صرح لنا على أن )الحالة التي باتت تعيشها المدينة منذ ما يناهز ثلاثين سنة هي نتيجة لتهميش ممنهج من طرف مسؤولين كبار في البلاد آنذاك... فالمدينة أضحت مزبلة بشرية تعاقب على خروجها للشارع ضد القهر والتجويع فأينما حللت فإن عينك لايمكن أن لاتبصر متشردا أو أحمق في حالة يندى لها الجبين. وكل هؤلاء لايعرفهم القصريون إذ يتم ترحيل الأفواج العديدة من المختلين عقليا الى المدينة حتى يعتقد المار بهذه المدينة أنها موطن الحمقى.. مدينة القصر الكبير التي لم يستسع وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري وقوف أبنائها في وجهه يوم حل بها في إحدى المناسبات الرسمية سنة 1982 وطلبوا منه الرحيل من مدينتهم وعدم الدخول اليها وهو في عز قوته ـ حسب شهادة أحد رجال المدينة المسنين ـ جعلها تدخل في مصاف المدن المقهورة وطنيا. خصوصا بعدما خرج أبناؤها للمشاركة في انتفاضة الجوع في يناير 1984 هذه الأخيرة التي نشبت كنتيجة للوضع المزري الذي أدى بالمغرب إلى الإفلاس حيث بلغت ديونه الخارجية آنذاك 700 مليون دولار أدى اليه سوء التدبير والانكباب على تحصين الجهاز الأمني وجعله أداة للردع والجزر والانفاق الضخم على التسليح وكذا انخفاض الفوسفاط المعيل الأول للاقتصاد الوطني بالاضافة الى قضية الصحراء التي كانت تكلف المغرب ما يناهز مليون دولار يوميا. وهو ما أرغم المغرب على الخضوع لتوجيهات صندوق النقد الدولي المتمثلة في تبني سياسة التقويم الهيكلي المرتكزة على سياسة التقشف والتي أدت الى فرض مجموعة من الإجراءات التي أجهز من خلالها على مجموعة من المكتسبات في عدة قطاعات من بينها التعليم، الصحة، الشغل والسكن. كما عرفت أثمنة المواد الأساسية ارتفاعا مهولا إذ بلغت نسبة 18 بالنسبة للسكر و 67 للزبدة و20 للغاز والوقود... الى غير ذلك من الإجراءات التي لم يواكبها أي تحسن للحالة المعيشية للمواطن وهو ماجعله وجعل أبناء القصر الكبير يخرجون الى الشارع من أجل التنديد بسياسة التقشف التي كانت لها تبعات سيئة على المواطن المغربي البسيط. هذا الوضع أدى بالأجهزة القمعية إلى مواجهة سكان القصر القمعية بأبشع الطرق حيث استعمل السلاح الناري كأداة لتفرقة المظاهرات السلمية التي نظمت أنذاك مما أدى إلى إصابات متعددة في صفوف المواطنين. فقد كانت البداية بإحدى ثانويات القصر الكبير حيث استمر إضراب التلاميذ مدة يومين قررت خلالها السلطات أن تقتحم حرمة المؤسسات وتردع المتظاهرين غير أن نار الغضب لم تزد إلا تأججا وانتقلت إلى الشارع القصري مما أدى بأحزاب وجمعيات ومواطنين عاديين الى الاحتجاج في شكل مظاهرات سلمية غير أنه كانت لمخزن القصر الكبير كلمة أخرى حيث أعطيت التعليمات بردع وقمع كل المتظاهرين الذين شاركوا في تلك المسيرات السلمية، وقد أصيب نتيجة لهذه التدخلات عدد هائل من المواطنين تم جمع جثتهم بسرعة حتى لايتسنى للمتتبعين بعدِّهم. وأعلنت الجهات الرسمية على أن المواجهة بمدينة القصر الكبير لم تعرف أية ضحايا باستثناء بعض الجروح البادية على مواطنين ورجال أمن. غير أن هيأة الانصاف والمصالحة. كانت قد توصلت بثلاثة طلبات من ذوي حقوق الأشخاص المتوفين خلال الأحداث التي عرفتها المدينة وأفضت تحريات الهيئة الى التأكد من وفاة أربعة أشخاص تمكنت من تحديد هوية ثلاثة منهم وتبين لها أن الشخص الرابع حسب والدة أحد الضحايا هو طفل يقطن بدوار الدخان ودفنت جثته بقبر مصطفى بنسر غيني ولم يتأت للهيئة العثور على عائلته. غير أن الجمعية المغربية لحقوق الانسان فرع القصر الكبير اعتبرت قرارات الهيئة المتعلقة بالمدينة وبالضبط أحداث يناير 1984، لم تكشف مجمل حقيقة القمع الذي تعرضت له ساكنة القصر الكبير. وسجل بيان الجمعية أن ضحايا سنوات الرصاص لم يتم إنصافهم بشكل صحيح مما يجعل ملف الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان مازال مفتوحا ونددت الجمعية بما سمته بالهاجس الأمني في التعاطي مع طلبات المكلومين من أحداث يناير 1984. ويذكر أن السلطات بعد الأحداث مباشرة قامت باعتقال العديد من المواطنين والتنكيل بهم. كما حدث في المدن المغربية الأخرى، فاعتقل مواطنون لاعلاقة لهم بالأحداث الشيء الذي تؤكده شهادة أحد الضحايا الذي طلب منا بإلحاح أن لا ندرج اسمه وأن نتخذ له اسم )العميري . وقد توصلنا بشهادته عن طريق البريد الإلكتروني وفهمنا من خلال حديثنا معه هاتفيا أن الرعب مازال يدب في أحشائه جراء ما تعرض له من قمع. يقول )العميري بلغة بسيطة نبرتها الألم والخوف والحزن، )... أثناء الإضرابات التي شهدتها القصر الكبير كنت قد غادرت قريتي بجماعة سوق الطلبة لأعمل بالمدينة. وقد كانت أيامي الأولى بالقصر الكبير مصادفة للحادث، كنت أشتغل كحمال للبضائع من المرينة الى سوق سبتة أو سوق الحنة أو إلى المحطة الطرقية، كنت قد استأجرت عربة أجرها بنفسي ذات عجلتين. وفي أحد الأيام وبالضبط يوم 22 يناير وبينما أنا ذاهب لأستلم العربة من دوار )بوشويكة صادفت في طريقي أحد أبناء قبيلتي وهو في عراك مع رجل وامرأة يبدو من خلال ملابسهما ولهجتهما أنهما جبليان حاولت أن أفصل بينهم بعدما عجز جمع من الناس القيام بذلك. وإذا بسيارة الشرطة تقف، اعتبرت أنه من الواجب أن أذهب لمساندة ابن قبيلتي فلحقت عليه بمركز الشرطة. قلت لشرطي في الباب أني أريد أن أرى ماذا حل بصديقي فوجهني بعنف نحو مكتب وجدت فيه صديقي وخصماه، ومعهما ضابط شرطة قالت المرأة للضابط ) حتى هذا كان معاه إذ علمت بعدها أن الجبليان كانا قد اتهما صديقي بالسرقة. لم يترك لي الضابط فرصة التفسير أو التوضيح بل نهرني ثم لطمني على مستوى وجهي وأجلسني عنوة وطلب من الجبليان أن ينصرفا وقام بأخذي إلى غرفة مستقلة عن التي وجد بها صديقي ليحرر لي ضابط آخر محضرا في القضية. وبعد انتهائه سألني عن هويتي بأسئلة متعددة وعن البطاقة الوطنية التي لم أكن أتوفر عليها وطلب مني أن أبصم على ورقته وفعلت وإذا به يلفق لي قضية التظاهر غير القانوني والقيام بأعمال الشغب والسرقة والاعتداء على ممتلكات الغير. لم أتمكن من معرفة هذه التهم إلا بعد أن تلاها علي أحدهم بعد مرور ثلاثة أيام بحجز تلك الدائرة الأمنية ليتم تنقيلي ليلا نحو مكان آخر والأصفاد في يدي وعند إنزالي من السيارة المدنية تم وضع عصابة على عيني سمعت آنذاك كلمة واحدة عرفت من خلالها أني سألقى من خلالها الويلات من العذاب إذ قال أحدهم للذي سيتسلمني )زد هذا الكلب على الآخرين وتهلاَّ فيه... بعد ما يناهز 25 يوما من التعذيب الجسدي والنفسي والإهانة والسب والشتم عرفت المكان الذي أتواجد فيه، هو ثكنة القوات المساعدة الآن بعدما أمضيت ما يناهز ستين يوما، أفرج عني وأجبرت على زيارة دائرة الأمن كل صباح ليراني ضابط الأمن وأوقع له في ورقة مع السب والإهانة... لحد الآن لا أعرف ماهو الذنب الذي اقترفته وأي جرم ارتكبته ولا أريد أي إنصاف أو مصالحة سوى أن يحاكم الذين تعدوا علي وعلى مجموعة من أبناء مدينة القصر الكبير... . القصر الكبير مدينة العلم والطهارة والعفة يغتصب هدوؤها الراسي على شط واد المخازن ليتحول الى صرخات وأوجاع وكوابيس جعلت من معالمها أنقاضا يصعب ترميمها وجبر ضررها.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire