عبد الله أعكاو يروي الـمعاناة
كان الاستسلام للموت خيارنا الوحيد بتازمامارت
إعداد : عادل تشيكيطو
تزمامارت الجرح الغائر في الزمن المغربي... الجرج الذي تراكمت فيه كل تجليات القسوة والألم والموت الفظيع.. إنه الجحيم.. الموت المؤلم.. الحقيقة الأبشع من أي وصف أو تسمية. تزمامارت المأساة الجارحة التي عاش أطراف حقيقتها رجال فقدت ملامح رجولتهم ... أضاعوا كل مايمت لهم بصلة البشر... تزمامارت الإسم المشؤوم والشبح الذي أرعَب السادة وضم في عمقه أسرار انقلابات كان فيها المهاجمون ضحايا مؤامرة دنيئة.. هذا المسمى تزمامارت الذي أسقط مملكة الكلام وأجمع سيرتها في صور.. عبرات المعذبين فيه أبيضت في المدى ولونت بتعب القهر.. تزمامرت.. الصرخة الجائعة التي طاردت ذاكرة مغاربة القرن العشرين.. كانت قلوبهم في يديه ولا طريق تحملهم إليه.. يرعبهم ويفجر رؤوس القابعين في زنازن الشؤم والخوف. قرب قرية قصر )تازمامارت ارتكنت قواعد أسوار معتقل تازمامرت المرعبة. والقرية تقع على بعد 20 كيلمترا من مدينة الريش قرب الراشيدية في اتجاه )كرامة . يقع هذا المركز داخل ثكنة عسكرية كان قد شيدها الجيش الفرنسي بذلك الموقع نظراً لأهميته الإستراتيجية. وشيدت به في وقت لاحق بنايات ذات معايير مرعبة خصصت لاحتواء مجموعة من العسكريين المحاكمين في إطار المحاولتين الانقلابيتين الصخيرات 10 يوليوز 1971 والطائرة 16 غشت 1972 ويبلغ عددهم 58 محتجزاً. وقد استعمل هذا المعتقل الذي تحدى كل أسماء البشاعة مابين 8 غشت 1973 و15 شتنبر 1991 بعد تاريخ العفو الملكي على كل المعتقلين السياسيين. فمباشرة بعد الحكم عن المشاركين في انقلاب الصخيرات بسنتين حبسا. والذين تم إيداعهم بالسجن المركزي بالقنيطرة. قامت بعض المصالح السرية باختطافهم من هناك إلى معتقل تزمامارت ليلة 8/7 غشت 1973 . وكانت المصلحة التي قامت باختطافهم تابعة للدرك الملكي.. وبعد مرور أكثر من 18 سنة تم الإفراج عن كل معتقلي تازمامارت وقد بقي منهم 26 عوض 58 معتقلا حيث لقي إثنان وثلاثون معتقلا حتفهم. عرف على تزمامارت تميزه بطابع مناخي قاسي وسوء التغذية وانعدام العناية الطبية والحرمان من الحركة والضوء والهواء النقي مما تسبب في وفاة 32 معتقلا وإصابة آخرين بأمراض جسدية أو عقلية. ارتبط جحيم تازمامارت تاريخيا بالفوضى القاتمة التي طبعت مغرب نهاية الستينيات وبداية السبعينيات. حيث أنه بعد اختطاف المهدي بنبركة من أحد شوارع باريس وتصفيته سنة 1965 وإعلان حالة الطوارئ وتعليق عمل المؤسسات كحل البرلمان والحكومة. وفي سياق هذا الجو السياسي المحتقن بالصراع نحو السلطة وتجاذب أطراف القوة بين المعارضة والنظام ومحاولة تحكمهما في الوضع بمغرب ما بعد الإستقلال. انفلتت من بين هذا الزخم المؤرق من الأحداث السياسية، محاولة انقلابية كان قد قادها الجنرال المدبوح والكولونيل أعبابو. وتعود أطوار هذه العملية إلى 10 يوليوز 1971 بمناسبة عيد الشباب الذي هو عيد ميلاد الراحل الحسن الثاني. حيث قام الكولونيل اعبابو مدير المدرسة العسكرية هرمومو بإخبار الضباط وضباط الصف المسؤولين عن التكوين أن ثمة عملية عسكرية تنتظرهم وأنهم سيقومون بمناورة عسكرية في اليوم الموالي وأمرهم بإعداد الطلبة لذلك. وبالفعل أقلّت الحافلات الجنود نحو الصخيرات وقد اعترض طريقهم الكولونيل اعبابو ليعلمهم أن العملية هي اقتحام إحدى البنايات التي تحتمي بها عناصر انقلابية مدعيا أن هذه العناصر تشكل خطراً على الملك الذي يجب إنقاذه. وبالفعل استأنف الموكب رحلته نحو القصر وقاموا بمهاجمته وأمطروا من كانوا به بوابل من الرصاص ولم يكن واحد من هؤلاء الطلبة العسكريين يعلم بأن البناية التي يهاجمونها في عبارة عن قصر ملكي وأن الأشخاص الذين يوجدون به، هم شخصيات مدعوة لحضور حفل عيد ميلاد الملك. وبعد 24 ساعة من الهجوم أحبطت العملية الإنقلابية وقتل قائدها الجنرال المدبوح والكولونيل اعبابو مدير مدرسة ارهمومو العسكرية. واعتقل باقي المتورطين من ضباط وضباط صف وطلبة وأشرف الجنرال أوفقير على إعدام الجنرالات والضباط المشتبه في تخطيطهم لهذه العملية. كانت هذه المرحلة فرصة ليبدع فيها أوفقير ومن معه قدرته على خنق الجسد البشري بألوان التعذيب وأشكاله. سواء أثناء التحقيق أو بمعتقل تزمامارت حيث تقول شهادات إن المعتقلين لاقوا من أنواع التعذيب ما تجسد في تقييد معصمهم وحزمه بواسطة حزام جلدي وربط الرجل بحزام ثاني وضغط الظهر حتى يمس الرأس القدمين وإدخاله بين الفخدين. ثم يقوم أحد السجانين بالبول في دلو من الماء ووضع إسفنجة مملوءة بالقرافة والماء المتسخ بالبول على أنف المعتقل إلى أن يختنق المعذب، وهذا ما كانوا يسمونه )بالترحيب فقط لتأتي بعد ذلك الويلات من العذاب الأليم. لقد أجمع الكل على أن المعتقل السري تزمامارت القابع في عمق الصحراء الشرقية قد أقبر أحلام ثلة من الشباب المغربي الذي أكره فيه على تقاسم العزلة والموت والألم ومواجهة القدر الذي تكلمت فيه خيوط الانقلابيين بعدما ورطت معها مجموعة من الشباب الذين أخلصوا لوطنهم الى درجة أن تنفيذهم للأوامر الصادرة عن رؤسائهم أعتمت فطرة التمييز لديهم ليجدوا أنفسهم واقفين أمام الموت وجها لوجه. ويزج بهم في قبر نبضت فيه القلوب إلى أن أنطفأ ضوءها واستحالت الأبدان إلى ركام من الهياكل المدفونة بساحة تزمامارت أو في أحضان الويل.
عن تجربة هذا الدَّرك الأسفل من النار يحكي عبد الله أعكاو ضابط صف سابق بالقوات الجوية في إحدى جلسات الإنصاف والمصالحة بالرباط ويقول أنا عبد الله أعكاو كنت ضابط صف بالقوات الجوية حينما اعتقلت سنة 1972 إثر الانقلاب الذي قاده الجنرال أفقير وأمقران صدر في حقي حكم بثلاث سنوات سجنا وكان من المفروض أن أغادر السجن سنة 1975 لكني اختطفت ذات ليلة من سنة 1973 من السجن المركزي بمدينة القنيطرة بمعية مجموعة من رفاقي إلى وجه مجهولة. وكان ذنبنا الوحيد أننا انضبطنا ونفذنا الأوامر كما تقضي بذلك قوانين الجيش وضعونا في قبور مظلمة دفنونا فيها بلا شمس ولا هواء نقي لمدة تزيد على 18 سنة. الأسرّة كانت عبارة عن بلاطة أسمنتية والغطاء أسمال بالية بروائح نتنة لا تحتمل. كانت لنا عيون لكن لم نكن نرى بها سوى الظلمة والعتمة والأشباح التي طالما تخيلها بعضنا في عزلته القاتلة لأن كل واحد منا كان محتجزا بشكل منفر في قبره ليس هناك وسائل للنظافة أو للاغتسال أو لحلاقة الشعر التغذية كانت مما لا يمكن لعقل بشري أن يتصوره كان رفاقي يتساقطون يوما بعد يوم بسبب الهزال الذي أصابنا والأمراض التي لم يكن لنا من سبيل لعلاجها سوى الاستسلام لآلامها لأننا كنا محرومين من العلاج والأدوية ومن يمرض يبقي هكذا إلى أن يموت أذكر أحد رفاقي الذي مات بعد أن ترك طريحا على البلاطة الأسمنتية لمدة ست سنوات حتى تآكلت أطرافه وتعفن جسمه والتصق بالأسمنت. أغلبنا أصيب بالشلل والعجز التام عن الحركة وبعضنا أصبح يمشي على أربعة قوائم كالحيوانات والبعض الآخر صار يزحف علي بطنه من فرط عجزه كل واحد منا كان ينتظر دوره ليموت كباقي رفاقه الذين قضوا. ومن بين المظاهر اللإإنسانية التي طبعت حياتنا بتازمامارت. فقد كنا نطلب من الحارس أن يوافينا بالماء وكان يتماطل معتبرا أن ذلك هو محاولة من استنشاق هواء آخر غير الذي نستنشقه من الزنزانة التي نحن بها. وكنا كلما طلبنا منه ذلك إلا وينهال علينا بالضرب والسب والإهانة حتى لا نقوم بطلبه مرة أخرى. فبدأت صحتنا تتدهور شيئا فشيئا إلا أن سقط فينا ضحايا المرض، وتعفنت جثتهم وصارت رميماً دون أن يتدخل السجانون لإنقاذهم قبل الموت أو لإكرامهم كموتى وكنا نتعرض للإهانة أحياءً وأمواتاً، ومن أشكال الموت التي لاقاها ضحايا تزمامرت أن أحدنا نام ست سنوات على الأرض الإسمنتية دون أن يتدخل أحد لإنقاذه حتى بدأ لحمه يتفتت وصار الرجل جثة هامدة تحولت فيما بعد إلى رميم، وهناك حالات أخرى كان موتها أفظع، حيث انتحر صديق لي في زنزانة مجاورة بعدما وصل إلى حالة نفسية وعقلية جعلته يعتقد أن السبيل الأوحد للتخلص من جحيم تزمامارت هو الموت. وقد قام بذلك بعد أن سمع بموت ستة من أصدقائه في العنبر الثاني. وبعد الضغوطات التي مورست على المغرب من أجل الإفراج عن معتقلي تزمامارت حاول اللإنسانيون أن يحفروا لنا خنادق من أجل دفننا جماعة إلا أن الأمر اكتشف وردموا تلك الخنادق. بعدما خرجت رسالة من المعتقل. ثم نقلونا الى هرمومو من أجل ترميم مابقي من أجسادنا في مدة شهر وأوصلونا إلى أهلنا. ورغم أننا سنعانق الحرية أخيراً فقد رافقتنا العصابة في أعيننا وكذلك الأصفاد والإهانة والتهديد. رموني بسيدي بطاش عند عائلتي .آنذاك قام والدي وأسرتي بالتفرغ من أجل تعليمي المشي والكلام. قاسينا وعانينا التشرد وواعدتنا الدولة بتعويض من خلال اجتماع مع وزارة حقوق الإنسان إلا أن ذلك لم يكن سوى وعود لدر الرماد على الأعين. وقد قمنا نحن بإدماج أنفسنا. حيث ترشحت للانتخابات وقمت بأعمال أعادت إلي الثقة بنفسي... .
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire